القيام بالواجبات وترك المنهيات

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروه أن هداكم للإسلام، ومن عليكم بنعمة الإيمان، واعرفوا قدر هذه النعمة بشكره سبحانه عليها، بالعمل بما أمركم به، والبعد عما نهاكم عنه، فإن الشكر الحقيقي هو الشكر بالقلب واللسان والعمل . إن الشكر باللسان وحده لا يكفي بل لا بد من العمل يقول سبحانه: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].

إن أهم شيء في ديننا هو إفراد الله سبحانه بالعبادة وإخلاص العمل له، ومراقبته سبحانه في السر والجهر، وفي جميع الأعمال، في كل عمل بينك وبين الله، وفيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين أهلك وأولادك، وفيما بينك وبين أقاربك وجيرانك، وفي معاملتك مع الناس، في بيعك وشرائك وفي وعدك وعهدك، تراقب ربك في هذا كله، فهذا هو حقيقة الإيمان.

إن الإيمان ليس القيام بأداء الصلاة والصيام والزكاة فقط، إنه مع المحافظة على هذه الأركان المهمة يتعلق في كل عمل تزاوله في سلوكك وفي جميع أعمالك.

عباد الله: إن كثيرًا من الناس قد يلتزمون بأداء المأمورات الشرعية، ويحافظون عليها، ولكن لا يتحرجون عن فعل المنهيات، ولا يلتزمون باجتناب ما نهى عنه القرآن الكريم، أو نهى عنه سيد المرسلين، لذلك نرى بعضًا من الناس لا يمنعه إيمانه من ارتكاب المناهي، يصلي، ولكن لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، يصوم ولكن لا يعصمه صومه عن قول الزور والعمل به، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدًا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

فالمسلم الحقيقي هو من يلتزم بشرائع دين الله أوامرها ونواهيها، فمن فعل الأوامر ولم يجتنب النواهي فقد ظلم نفسه، وأفسد عمله، وانتهك محارم ربه.

أين حقيقة الإيمان ممن يأكل أموال الناس بالباطل، ويبخس حق هذا ويظلم هذا، ويطعن في أعراض المسلمين ؟! .

أين حقيقة الإيمان ممن لا يمنعه إيمانه من الكذب، والغش، والخداع في بيعه وشرائه، ويكرر الأيمان المغلظة؛ لينال عرضًا من الدنيا، ويخون ويحتال على حقوق إخوانه بغير حق؟! أين حقيقة الإيمان ممن لا يحميه إيمانه عن الزنا، والفجور، وتعاطي المخدرات والخمور؟! أين حقيقة الإيمان عمن لا يفي بوعده، ولا يصدق في قوله؟! أين حقيقة الإيمان ممن يعق والديه، ويقطع رحمه، ويتسلط على جيرانه بالأذية في قوله وفعله ؟! أين حقيقة الإيمان ممن لا يأمن جاره بوائقه، ولا صديق غوائله ؟! أين حقيقة الإيمان ممن يخون إذا ائتمن، ويكذب إذا حدث، ويفجر إذا خاصم، ويغدر إذا عاهد ؟! .

ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال يقول صلى الله عليه وسلم : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ».

روى ابن ماجة عن ثوبان رضي الله عنه بسند قوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، بيضًا، فيجعلها الله هباء منثورًا»، قال ثوبان: يا رسول الله: صفهم لنا، جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها».

عباد الله: احذروا من صفات هؤلاء الذين حذرنا صلى الله عليه وسلم عملهم . احذروا أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، حافظوا على العبادات وابتعدوا عن المنكرات، فكم من مطلق لسانه بالغيبة والنميمة والكذب . وكم من رام ببصره إلى النظر في المحرمات، والاطلاع على عورات المسلمين، وكم من مصغ بسمعه إلى ما حرم الله عليه من سماع الأصوات المحرمة، والاستماع إلى أحاديث الناس في مجالسهم من حيث لا يشعرون، وهم كارهون لذلك . إن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].

وإن من أعظم الأمور المنهي عنها ما يصدر من اللسان، ولما سأل معاذ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم : «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أن تكونوا من المفلسين يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88، 89]، لقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

 الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا مخالفته في أمره ونهيه، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .

واعلموا عباد الله، أن الله سبحانه أخبر أن رزق بني آدم، وقوام معيشتهم مما ينزله لهم من السماء، كما قال سبحانه:﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].

فإذا أراد الله عز وجل أن يبتلي قومًا بنقص الأرزاق، حبس عنهم القطر من السماء، فتوقفت الأنهار، وغارت العيون، ونضبت مياه الآبار، فعند ذلك هلكت الأشجار، والزروع، والمواشي، وربما ظهرت الأمراض، والأسقام على أثر ذلك، كما هو الواقع في بعض البلاد الإفريقية، فشت فيهم الأمراض بسبب قلة الغذاء، وفقدان النافع منه . وإن هذه الكوارث المتنوعة التي أصابت كثيرًا من البلاد الإسلامية، وغيرها، من شدة الجفاف، ووجود كثير من الكوارث، مثل كثرة الفيضانات المدمرة، وكثرة العواصف، والثلوج، والبرد، الذي أهلك كثيرًا من الناس . وكذلك هذه الحروب الطاحنة، والقلاقل، والفتن، وتسليط قوى الشر على كثير من بلاد المسلمين، إن هذا كله بسبب الذنوب والمعاصي، كما قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41] . وهذه سنة الله في خلقه، أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن استقاموا على طاعة الله، أقام لهم أحوالهم، وأدر عليهم أرزاقهم، وإن كفروا بنعم الله غيَّر الله عليهم، جزاء وفاقَّا، وما ربك بظلام للعبيد .

ولقد قص الله علينا أخبار الأمم السابقة التي كذبت رسله، واستمرت في طغيانها، ماذا حل بها يقول عز وجل: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:40] وما هذه العقوبات من الظالمين ببعيد . فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من التوبة والاستغفار، والرجوع إلى الله بقلوبكم، وأعمالكم، فإن الاستغفار سبب لتوفر الأرزاق، ونمو الخيرات، وكثرة الأولاد، يقول سبحانه عن نوح عليه السلام لقومه، مذكرًا، ومحذرًا، ومرشدًا لهم إلى ما ينفعهم ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح:10-12]، وقال عن هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].

ألا فأكثروا عباد الله من الدعاء، والالتجاء إلى الله، والتوبة، والاستغفار، والصدقة، ودفع الزكاة كاملة لمستحقيها، وعليكم بصلة الأرحام، والعطف على الفقراء والأيتام، وإغاثة الملهوفين، وإنظار المعسرين، لعل الله أن يرحمكم، فيغيث قلوبكم بالرجوع إليه، وبلدكم بإنزال الغيث عليه.